تحت وطأة الاحتياج المادي قد يلجأ الإنسان إلى تصرفات لم يتخيّل أن يقوم بها؛ كأن يقوم أديب مثلاً ببيع مسودات أعماله لتُنشر باسم شخص آخر أو يبيع جائزة قيمة حصل عليها ليأكل بثمنها أو يعرض مكتبته الشخصية للبيع.
نماذج عديدة نعرفها من تأثير الفقر على حياة الأدباء والكُتاب. لكن لأن الحاجة أم الاختراع، فكلما اشتد الفقر اشتدت حيل التخلص منه. كالحيلة التي قامت بها كاتبة السير الذاتية لي إزرائيل.
السيدة لي باعت لجامعي التحف والأنتيكات عديداً من الرسائل الشخصية التي كتبها عمالقة الأدب العالمي، مثل دوروثي باركر ونويل كوارد. الملحوظة الهامشية التي اكتشفها هؤلاء الباعة أن تلك الرسائل مزوّرة. لكنه تزوير متقن إلى درجة يجعل من الصعب تخيل أن من قامت به هي كاتبة قبل أن تكون مزورة محترفة.
لمدة ثلاث سنوات ظلت لي تبيع تلك الرسائل. لكن عام 1992 ارتاب مكتب التحقيقات الفيدرالية في الأمر. وبدأ تحقيقات طويلة استمرت لسنوات. وبمجرد القبض على لي ومواجهتها سرعان ما انهارت ووقفت أمام المحكمة لتقر بذنبها، وتعترف بجريمتها. لتكون تلك القضية الضربة القاضية لحياتها المهنية، المهتزة أصلاً. لكن في عام 2008 استطاعت لي أن تستعيد بعضاً من المجد مرة أخرى، وأن تكسب قدراً كبيراً من المال عبر كشفها للجميع عن تفاصيل عمليات الخداع تلك.
لي إزرائيل من مواليد عام 1939 لعائلة يهودية. وتخرجت في الجامعة عام 1961. وبدأت في كتابة المقالات المستقلة لعديد من الصحف المحلية. تطور الأمر حتى وصلت مقالاتها إلى صفحات صحيفة نيويورك تايمز المرموقة. ثم انتقلت إلى الكتابة في مجلات المشاهير، لهذا بدأت تتكون لديها شبكة علاقات قوية مع مشاهير مختلف المجالات في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان مقالها عن الممثلة كاثرين هيبورن هو الكاشف لقدرتها على سرد السيرة الذاتية بشكل ممتع؛ ففي عام 1972 نشرت لي أول كتاب لها في فن السيرة الذاتية عن الممثلة تالولا بانكهد. ثم عام 1980 كتب سيرة ذاتية لدورثي كليجلين، وهي صحفية مشهورة كانت ضيفاً دائماً على برامج المسابقات. لاقت تلك السيرة رواجاً كبيراً، حتى تصدرت قائمة «نيويورك تايمز» للأكثر مبيعاً.
الانهيار بدأ عام 1983. في ذلك العام دفعت لها إحدى دور النشر مقدماً لكتابة سيرة ذاتية عن إستي لودر إمبراطورة صناعة مستحضرات التجميل. لم تكن دار النشر ولا لي استأذنتا إستي لودر في كتابة سيرتها. تقول لي إن دار النشر طلبت منها كتابة السيرة من دون أي خطوط حمراء، وأن تورد فيها كل الجوانب الخفية لحياة لودر، لدرجة أن لودر عرضت عليها مبلغاً أكبر من المال في مقابل أن تتوقف عن الكتابة.
لكن لي رفضت وآثرت الاستمرار في تنفيذ تعاقدها مع دار النشر. لم يكن أمام لودر مفر من أن تقوم هي بكتابة سيرتها الذاتية الخاصة، لترويها بالشكل الذي تراه ملائماً. ثم تحيّنت الموعد الذي أصدرت فيه لي كتابها، وأصدرت فيه لودر نسختها الخاصة من السيرة الذاتية. لم يكن مستغرباً أن تنجح لودر في فرض حكايتها، لأنها تحكي حياتها هى، بينما أخفض كتاب لي تماماً، حتى على مستوى النقاد الذين رأوا فيه استعجالاً ورغبة في الكتابة السريعة فحسب.
هذا الإخفاق قضى على حياة لي. وباتت معتمدة على الإعانات الاجتماعية. لكن تلك الإعانات لم تناسب مستوى حياتها. وكانت اللحظة التي قررت فيها أنها بحاجة للتصرف في أي مصدر للدخل، حين وجدت نفسها عاجزة عن سداد فاتورة الطبيب البيطري لقطتها.
لم يكن التزوير في خطة لي منذ اللحظة الأولى؛ ففي البداية قامت بسرقة العديد من الرسائل الحقيقية من مكتبة نيويورك للفنون الاستعراضية. ثم باعتهم تباعا، واعتاشت من أموالهم. لكن في لحظة قررت أن تضيف بعض العبارات للرسائل كي ترفع من قيمتها، خصوصاً تلك الرسائل التي كان يوجد فيها فراغ كبير أسفل التوقيع.
بمرور الأيام زوّرت لي أكثر من 400 رسالة، عديد منهم مضاف إليهم جمل شديدة المفاجأة بخصوص الحياة الخاصة لأصحابهم، أو تعليقاً منهم على أدباء آخرين. ولم يستطع أصحاب المتاجر، رغم خبرتهم في كشف التزوير، من الإمساك بالرسائل المزورة بسبب الاحترافية التي مارست بها لي عملها.
فقد استأجرت منزلاً صغيراً بعيداً عن بيتها. في ذلك المنزل اشترت عديداً من الآلات الكاتبة متزامنة مع الحقبة الزمنية المكتوب فيها الرسائل المراد تزويرها، التي عاش فيها الكُتاب الذين ستوقع باسمهم. كما حرصت على سرقة الأوراق التي ستكتب عليها من كتب عتيقة في المكتبات العامة، كي يكون عمر الورقة وعمر الآلة الكاتبة متماشياً مع زمن الرسالة والكاتب.
لكن مع الغواية التي وقعت فيها، فكلما زادت فضائحية المحتوى زادت قيمة الرسالة. قامت لي في إحدى المرات بتزوير رسالة على لسان نويل كونراد. كانت رسائله على لسانه مقنعة إلى الحد الذي دفع كاتبي سيرته الذاتية إلى الاستعانة بتلك الرسائل التي يُكشف عنها القناع لأول مرة.
فقد كان كونراد شاذاً جنسياً، لكنه لم يكن يشير لذلك في عصره مخافة الوقوع تحت طائلة العقاب، فلم يكن الأمر مسموحاً به قانوناً آنذاك. لكن في رسائلها وضعت لي إشارات صريحة على لسان الرجل توضح ميوله الجنسية. فارتاب المختصون في دراسة أدب الرجل وحياته في تلك الرسائل، مؤكدين أنه من المستحيل أن يُلمح الرجل أو يصرح بأي شكل أو لأي أحد بتلك الميول.
ما سبق وضع رسائل لي تحت المراقبة. وفي إحدى المرات اكتشف تاجر أن بعض رسائل دوروثي باركر التي اشتراها من لي إزرائيل، مزيفة. لكن ذلك التاجر لم يبلغ الشرطة، واكتفى بطلب المبلغ الذي تقاضته منه لي. ولهذا الغرض توجهت لي إلى مكتبة نيويورك العامة لسرقة بعض الرسائل الحقيقية.
تلك السرقة كانت هي الخطوة الأخيرة التي أوصلتها للمحكمة. فقد اكتشف أحد التجار الذي اشترى منها رسالة كتبها إرنست هيمنجواي أن الرسالة كانت من مقتنيات جامعة كولومبيا. وتباعاً تم التحقق من الرسائل التي سرقتها لي كافة، وكتبتها باسم أدباء آخرين.
ومع اعترافها بالذنب حُكم عليها بالإقامة الجبرية لمدة ستة أشهر، وأن تبقى قيد المراقبة لمدة خمس سنوات كاملة. في تلك الفترة كتبت لي كتابها الذي روت فيه كل تلك التفاصيل بعنوان «أيمكنك أن تسامحني يوماً ما؟»، في ذلك الكتاب، بجانب التفاصيل، كانت نبرة لي لا تحمل أي ندم تجاه فعلتها، بل الفخر بكل حرف كتبته. والفخر بأنها استطاعت تقمص شخصيات الكتاب العظماء بصورةٍ لم يستطع معها كشفها. حتى قالت إنها تعد تلك الرسائل أفضل أعمالها.
عاشت لي حتى بلغت 75 عاماً. وتوفيت نتيجة الإصابة بسرطان النخاع. لكن رغم وفاتها ظلت أعمالها خالدة، سواء بالمعنى المجازي للكلمة، أو المعنى الحقيقي. فقد أوضح مكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2014 أن عديداً من رسائل لي لا تزال طليقة بين أيدي التجار، وأنهم يتداولونها باعتبارها أصلية.